التخطي إلى المحتوى

ربع المصريين … يواجهون تحديات نفسية

بقلم  نجلاء احمد  

نجلاء احمد

في عالم تتسارع فيه التغيرات وتتعمّق فيه الضغوط اليومية، أصبحت الصحة النفسية أحد أبرز القضايا التي تشغل المجتمعات الحديثة. فلم تعد مجرد شأن طبي يقتصر على التشخيص والعلاج، بل تحولت إلى قضية ثقافية واجتماعية ترتبط بطريقة تفكير المجتمع، وأنماط العلاقات الإنسانية داخله، ودور الأسرة، وما يتبنّاه الأفراد من مفاهيم حول القوة والضعف والرفاه. فالصحة النفسية ليست حالة منفصلة عن الواقع، بل هي نتاج تفاعل معقد بين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يعيشها الإنسان، وفي ظل ما يمر به المجتمع من تحديات معيشية وضغوط متزايدة، أصبحت بمثابة مرآة تكشف قدرة الأفراد على التكيف، ومدى استعداد البيئة المحيطة لتوفير الدعم والأمان الذي يحتاجه الإنسان للحفاظ على توازنه.
وتكشف الإحصاءات الوطنية عن مدى اتساع نطاق هذه القضية. فقد أظهر المسح القومي للصحة النفسية، الذي نُفذه الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بالتعاون بين وزارة الصحة ، أن ما يقرب من ربع المصريين 24.7% يعانون من أعراض نفسية بدرجات متفاوتة، بينما يعاني نحو 7% من اضطرابات نفسية واضحة تستدعي تدخلًا علاجيًا متخصصًا. كما تشير دراسة ميدانية شملت أكثر من أربعة عشر ألف من البالغين في خمس مناطق مختلفة إلى أن انتشار الاضطرابات النفسية يبلغ حوالى 17%، موزَّعة بين اضطرابات المزاج والقلق واضطرابات متعددة أخرى. ويعني ذلك أن ملايين الأفراد يعيشون يوميًا مع تحديات نفسية تؤثر على جودة حياتهم، وتنعكس على علاقاتهم الاجتماعية وقدرتهم على الإنتاج.
هذه الأرقام لا تُقرأ بوصفها بيانات طبية فقط، بل تُدرَك ضمن سياقها الاجتماعي والثقافي الذي يفسّر انعكاسها وتأثيرها في واقع الأفراد.. فالثقافة تحدد كيف يعبّر الفرد عن معاناته، وما إذا كان يسعى لطلب المساعدة أو يخفي ألمَه خشية الوصمة. ففي الكثير من الحالات، يُنظر إلى الاضطرابات النفسية باعتبارها ضعفًا أو تقصيرًا، ما يدفع الكثيرين إلى الصمت وتحمّل الضغط بمفردهم. ويؤدي هذا الصمت إلى تفاقم الاضطرابات النفسية، خصوصًا في بيئات لا تزال فيها الصحة النفسية موضوعًا حساسًا أو غير مفهوم على نحو كافٍ.
وتلعب الأسرة دورًا محوريًا في تشكيل الصحة النفسية للأفراد. فأنماط التربية، وحدود التواصل، ودرجة النمو العاطفي داخل المنزل، جميعها تؤثر في تكوين شخصية الفرد وقدرته على إدارة الضغط. فالبيئة الأسرية الداعمة، القائمة على الحوار والاحترام، تعزز الثقة بالنفس وتساعد الأفراد على مواجهة الأزمات، بينما قد تسهم البيئات المتوترة أو العنيفة أو المغلقة في زيادة القلق والاكتئاب والشعور بعدم الأمان.
ولا يقل المجتمع تأثيرًا عن دور الأسرة، فهو مصدر للضغوط وفي الوقت ذاته مصدر للدعم. فالتغيرات الاقتصادية، وارتفاع تكاليف الحياة، وصعوبة التوقعات المجتمعية، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف العلاج النفسي،كلها عوامل تضع الأفراد في حالة من الإجهاد المستمر. وفي المقابل، يمكن للعلاقات الاجتماعية المتماسكة، والمبادرات المجتمعية الداعمة، والمساحات المفتوحة للحوار، أن تلعب دورًا كبيرًا في تخفيف هذا العبء وتعزيز الشعور بالانتماء.

 

وفي عصر الرقمنة، برزت تحديات جديدة للصحة النفسية؛ فوسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من دورها في تسهيل التواصل والمعرفة، خلقت بيئة مليئة بالمقارنات والضغوط الخفية، وأدت إلى بروز مشكلات مثل الفراغ العاطفي، والعزلة الرقمية، وتنامي الحاجة المستمرة لمتابعة الأخبار والمستجدات، الى توليد عبئًا نفسيًا متواصلًا. كما أن المقارنات بين حياة الآخرين والصور “المثالية” التي ينقلها الإعلام الرقمي تثير شعورًا بعدم الرضا وتزيد من التوتر والقلق اليومي، ما يجعل الصحة النفسية أكثر هشاشة أمام هذا التدفق المستمر من المعلومات والانطباعات.
إن مواجهة هذه التحديات تتطلب رؤية شاملة تتكامل فيها جهود الدولة والمؤسسات التعليمية والصحية والإعلامية، إلى جانب دور الأسرة والمجتمع المدني. فالنهوض بالصحة النفسية ليس مسؤولية قطاع واحد، بل هو مشروع مجتمعي يهدف إلى بناء ثقافة واعية ومجتمع قادر على احتواء الإنسان في ضعفه وقوته على حد سواء. فالصحة النفسية ليست رفاهية، بل أساس لبناء مجتمع متوازن قادر على الإنتاج والإبداع، ومؤشر مباشر على قوة نسيجه الاجتماعي واستقراره.