التخطي إلى المحتوى

 

بعد ما يقرب من ستة عقود، لم يقتصر فيلم “مراتي مدير عام” على كونه عملاً كوميديًا خفيفًا من زمن الأبيض والأسود، بل يُعد نصًا سينمائيًا ذكيًا سبق عصره، استخدم الضحك كأداة ناعمة لتفكيك واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في المجتمع المصري والعربي وهى عمل المرأة وتوليها مواقع السلطة، وتأثير ذلك على البنية التقليدية للأسرة.

ينطلق الفيلم من مفارقة بسيطة في ظاهرها، عميقة في جوهرها، زوجة تُعيَّن مديرًا عامًا، وزوج يعمل تحت رئاستها، هذه المفارقة لا تصنع الضحك فقط، بل تفتح بابًا واسعًا للأسئلة الاجتماعية والنفسية حول مفهوم الرجولة، والسلطة، والنجاح، ومن يملك حق القيادة.

المخرج فطين عبد الوهاب لم يلجأ إلى التهريج أو المبالغة، بل اعتمد على كوميديا الفكرة؛ حيث ينبع الضحك من اصطدام الواقع الجديد بعقلية قديمة لم تستوعب بعد تغيّر الأدوار.

تقدّم شادية شخصية عصمت باعتبارها نموذجًا للمرأة الكفؤة التي وصلت إلى منصبها عن جدارة. لم يصوّرها الفيلم متسلطة أو متعالية، بل حازمة في العمل، متزنة في البيت. وهنا تتجلى رسالة الفيلم الأساسية.

الفيلم لا يدافع عن المرأة بخطاب مباشر، بل يترك أفعالها وسلوكها المهني يتحدثان عنها، في مواجهة مجتمع يشكّك في قدرتها فقط لأنها امرأة.

صلاح ذو الفقار في دور حسين يجسّد أزمة الرجل لا كخصم للمرأة، بل كضحية لتنشئة اجتماعية ربطت الرجولة بالسيطرة والمنصب. أزمته ليست في كون زوجته ناجحة، بل في خوفه من نظرة الآخرين، ومن اهتزاز صورته أمام نفسه قبل المجتمع.

وهنا ينجح الفيلم في تقديم طرح متوازن؛ فلا يُدين الرجل بقدر ما يفضح الفكرة المغلوطة التي تربطه بالسلطة لا بالإنسانية.

ينتقل الصراع من المصلحة الحكومية إلى البيت ,والاسرة، في إشارة واضحة إلى أن قضايا العمل والسلطة لا تنفصل عن الحياة الخاصة. فالفيلم يؤكد أن المشكلة ليست في منصب الزوجة، بل في عدم القدرة على الفصل بين الشراكة الإنسانية والمسئولية الوظيفية.

يقدّم الفيلم نموذجًا مصغّرًا للمؤسسة الحكومية، حيث تتنوّع ردود أفعال المرؤوسين تجاه المديرة الجديدة، ما بين التشكيك المسبق في الكفاءة بسبب النوع الاجتماعي، مع الالتزام الشكلي بالأوامر احترامًا للمنصب لا اقتناعًا بالقيادة، بالاضافة الى المقاومة الصامتة التي تختفي خلف النكات والتلميحات.

هذه السلوكيات تعكس أنماطًا واقعية ما زالت حاضرة في بعض بيئات العمل حتى اليوم، حيث تظل السلطة الرسمية أقوى من القبول النفسي، وتحتاج القيادة النسائية وقتًا أطول لكسب الثقة.

في زمن كان مجرد الحديث عن امرأة في منصب قيادي يُعد جريئًا، جاء الفيلم ليقدّم خطابًا تقدميًا بلا شعارات، وبلا صدام مباشر مع المجتمع، فعن طريق الضحك، والتعاطف، تتدرج الفكرة حتى نصل إلى نتيجة منطقية، الاحترام المتبادل هو أساس أي علاقة ناجحة، داخل العمل أو خارجه.

 

 

خلال العقود الماضية، شهدت مصر تحولات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية كبيرة، انعكست على مختلف جوانب الحياة اليومية، بما في ذلك دور المرأة في سوق العمل. ففي الستينيات، كانت مشاركة المرأة ضئيلة جدًا، لا تتجاوز نحو 12%، وكانت معظم الوظائف المتاحة لها تقتصر على التعليم والخدمات الصحية والزراعة التقليدية، واستطاع الفيلم ان يعكس روح المجتمع المصري عام 1966، حيث تظهر المرأة غالبًا في أدوار محدودة تقليديًا، تعكس القيود الاجتماعية والثقافية السائدة آنذاك، هذه الصورة السينمائية تُبرز كيف كانت المعوقات الاجتماعية والتعليمية تحد من قدرات المرأة الاقتصادية وتقلل من فرصها في المجتمع والصراعات بين التقليد والحداثة.

بحلول عام 2025، وطبقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفعت نسبة مشاركة المرأة في قوة العمل (15 سنة فأكثر) إلى نحو 16.9 ٪ من إجمالي القوى العاملة، مقارنةً بـ 70.3 ٪ للذكور، مع استمرار فجوة كبيرة بين الجنسين. وبلغ معدل البطالة للإناث حوالي 17.1 ٪ مقابل 4.2 ٪ للذكور، بينما وصل معدل التشغيل للإناث إلى 14 ٪ مقابل 67.4 ٪ للذكور، مع دخول المرأة قطاعات متنوعة تشمل الصناعة والخدمات والتعليم والصحة وريادة الأعمال.

يعكس هذا التطور رحلة المجتمع نحو تمكين المرأة وصعود دورها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعل فيلم مراتي مدير عام أكثر من مجرد كوميديا اجتماعية؛ فهو وثيقة تاريخية تسلط الضوء على بداية صراع المجتمع بين التقليد والحداثة، وتجسيد لتطور دور المرأة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. لنتذكر ان التغيير يحتاج إلى الوعي والمثابرة، وأن الفن يظل أداة قوية لفهم الواقع وإلهام النقاش البنّاء.