التخطي إلى المحتوى

علاء قنديل يكتب:
النكسة التي أذهلت المخابرات: كيف أعادت حرب أكتوبر كرامة مصر؟
سادات ومبارك: يوم عبورٍ قلب موازين المنطقة وفضح أجهزة المراقبة
العبور الذي أربك المخابرات الإسرائيلية والأميركية.. أكتوبر يكتب التاريخ من جديد

 

في السادس من أكتوبر، قبل عقود، شهدت ساحة الشرق الأوسط ما يصعب أن ينساه كتاب التاريخ والاستخبارات: عملية عسكرية محسوبة أعادت للمصريين كرامة وطنية وفرضت وقائع جديدة على موازين القوى. أما الجانب الآخر من القصة فكان دربًا آخر — كشفًا صارخًا في أداء أجهزة استخبارات كانت تعتقد أنها على علم بكل شيء. هذا التحقيق يعيد قراءة حرب أكتوبر من وثائق وتقارير استخباراتية أميركية وإسرائيلية متاحة للعامة، ليظهر كيف التقى التخطيط المصري الدقيق مع مفاجأة استخباراتية جعلت من العبور حدثًا يتردد صداه حتى اليوم.

كيف خطط السادات لحرب اكتوبر

العملية التي نفذتها القوات المصرية عبر قناة السويس لم تكن صدفة عسكرية عشوائية؛ كانت نتيجة تخطيط طويل، وتدريبات دقيقة على اجتياز الحواجز والالتزام بالوقت والسرية. الجنود المصريون والمقاتلات الجوية أدوا دوراً بارزاً في كسر خطوط العدو وإدامة المبادرة، وهو ما أعاد سمة الفخر إلى الشارع المصري وجعل من السادس من أكتوبر محطة وطنية لا تُنسى. تقارير تاريخية وتحليلات دولية تؤكد أن العملية نجحت في خلق عنصر المفاجأة والضغط الاستراتيجي الذي دفع القوى العظمى لاحقًا إلى التوسط وطرح حلول دبلوماسية.
أما وجه القصة الآخر فكان إخفاقًا استخباراتيًا إسرائيليًا تاريخيًا. الوثائق والتحليلات المنشورة لاحقًا تبيّن أن قطاعات من الاستخبارات الإسرائيلية أخفقت في قراءة نوايا القاهرة ودمشق، وأن سلسلة من الافتراضات المسبقة والتحيزات في التحليل أدت إلى تدهور الاستعدادات الدفاعية. التحقيقات الداخلية التي تلت الحرب (مثل ما وثقته لجنة أجرانات وتحليلات لاحقة) عرضت أخطاء منهجية في التحليل والاستخلاص، ما فتح نقاشًا طويلًا داخل إسرائيل عن مسؤولية الأجهزة وقادة الجيش.

الملفات الأميركية والوثائق الرسمية التي أُفرج عنها لاحقًا تناقش أداء مجتمع الاستخبارات الأميركي قبل الحرب ورد فعله أثناءها، وتوضح كيف أن واشنطن اضطرت إلى إعادة Calibrate سياساتها في المنطقة بعد تفجّر القتال. تقارير وزارة الخارجية وملخصات محاضر البيت الأبيض تضمنت تقييمات لحجم المفاجأة والخسارة المعلوماتية لدى الحلفاء، ولدت نقاشات استراتيجية لدى واشنطن عن دورها وكيفية التعامل مع أزمة مفاجئة من هذا النوع.
على صعيد القادة، يظل اسم الرئيس أنور السادات مرتبطًا بالقرار السياسي الذي قاد إلى التحرّك العسكري ومناورة الدبلوماسية اللاحقة؛ فقد نجح السادات في تحويل الإنجاز العسكري إلى رافعة تفاوضية مصرية، ما أوجد فرصة لإعادة ملف الأرض في طاولة المفاوضات إقليمياً ودولياً. كذلك ارتبطت أسماء قيادات عسكرية، ومن بينها ضابطان وجيهاً لهما دور في المعركة، بتبني مواقفٍ وصفت بـ«الشجاعة والحسم» التي ساهمت في بناء رواية نصرٍ وطني. تقارير ومذكرات تاريخية تبرز كيف أن أشهر العمليات أسهمت في ترسيخ مكانة السادات داخلياً وخارجياً.

تحليلات مؤسسات بحثية وأرشيفات استخباراتية تُشير إلى عدة أسباب رئيسية لإخفاق الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية في إدراك موعد ونوع الهجوم: الاعتماد المفرط على افتراضات ما بعد نكسة 1967 التي شكلت «مرجعًا» تحليليًا، ضعف التواصل بين أجهزة جمع المعلومات وتحليلها، والخوف من بث إنذارات كاذبة قد تؤدي إلى انكشاف عمليات محلية. هذه الأخطاء التحليلية لم تكن فنية فقط، بل كانت أيضًا سياسية وإدارية — درس بقي محفورًا في سجلات المخابرات العالمية.

بعد الصدمة الأولى، شهدت الساحة الإسرائيلية موجة من التحقيقات والانتقادات الداخلية، إذ نظرت لجان رسمية إلى أسباب الفشل ووضعت توصيات ونتائج أدت إلى تغييرات مؤسسية في مناهج التقييم الاستخباراتي. الحديث العام في داخل إسرائيل حمل لهجتي الاعتراف بالحقيقة وتسجيل نوع من «الحسرة» على ما فات من استعداد، وهو ما انعكس لاحقًا على نقاشات حكمية وسياسية في القدس.
في مصر، حوّل السرد الرسمي والشعبي العملية إلى حدث تأسيسي للهوية الوطنية بعد سنوات من الإحباط. الاحتفالات الوطنية، والمآثر التي رُولت حول دور الجنود والضباط، وذكرى السادس من أكتوبر صارت نقطة تجمع وطنية. كما استُخدمت الذكريات والتوثيق العسكري لبناء رواية متماسكة عن كرامة واستعادة سيادة، وهو ما بقي جزءًا من الذاكرة العامة حتى بعد عقود
حرب أكتوبر كانت محطة مفصلية لا يُمكن اختزالها في أرقام خسائر أو مكاسب. بالنسبة للمصريين، شكلت استعادة للكرامة وفتحًا لمسارات دبلوماسية سمحت بإعادة ترتيب العلاقات الإقليمية. ومن زاوية الاستخبارات الدولية، كانت بمثابة إنذار صارخ حول هشاشة الافتراضات الوقائية وأهمية المرونة التحليلية. قراءة الوثائق الاستخباراتية اليوم تُظهر أن النجاح العسكري المصري والتردد الاستخباراتي لدى الخصم شكلا معًا مناسبة لإعادة كتابة سردٍ تاريخي لا يزال مصدر اعتزاز ودرس لكل من يتابع شؤون الأمن والاستخبارات.