التخطي إلى المحتوى

نجلاء احمد تكتب:

تضاعفنا عدداً … وتراجعنا خلقاً 

 

في زمنٍ اختلط فيه الصدق باللباقة، والحق بالمجاملة، والضمير بالضرورة، ظهر يوسف السباعي كطبيبٍ اجتماعي حادّ البصيرة ليكتب وصفته الأشهر” أرض النفاق”.

 

تلك الأرض لم تكن خيالًا بعيدًا، بل انعكاسًا ساخرًا لواقعٍ يزداد عبثًا كلما تظاهر بالاتزان. ومن خلال قلمٍ ساخر وضميرٍ يقظ، قدّم السباعي واحدة من أكثر القصص جرأة في نقد المجتمع المصري والعربي، بينما جاء الفيلم – الذي جسّده المبدع فؤاد المهندس – ليحوّل النص إلى مرآة ناطقة تعكس وجوهنا بضحكةٍ مؤلمةٍ لا تخلو من الحقيقة.

يتخيل الكاتب أن الإنسان يستطيع شراء الفضائل والرذائل كما يشتري الدواء من الصيدلية: قرصٌ للشجاعة، وآخر للكرم، وثالث للنفاق. إنها فكرة عبقرية ببساطتها، تكشف أن الأخلاق في المجتمع الحديث أصبحت سلعةً تخضع للعرض والطلب. من أراد أن يعيش مرتاحًا فعليه أن يتناول «قرص النفاق» بانتظام، ومن أراد أن يقول الحقيقة فليتحمّل العواقب كمن يتناول دواءً منتهي الصلاحية! بهذا التناول الساخر لا يكتفي السباعي بوصف الأزمة، بل يُجري عمليةً جراحية في ضمير المجتمع وهو يبتسم.

أما مسعود أبو السعد، بطل القصة والفيلم، فليس بطلاً خارقًا بل إنسانٌ عادي جدًا ينهكه التناقض بين ما يؤمن به وما يُجبر على فعله. يبدأ طيبًا ومثاليًا، ثم يدخل عالم الأقراص ليجرّب النفاق والشجاعة والكرم كما يجرب أحدهم نكهات الآيس كريم. لكن مأساة محجوب تكمن في أنه حين حاول أن يكون صادقًا وسط عالمٍ منافق، اكتشف أن الصدق هو الخطيئة الكبرى. إنه صورة مكثفة للإنسان المعاصر الذي يعيش على الحافة بين الضمير والمصلحة، بين الحلم والواقع، بين ما يقول وما يُجبر على قوله.

الحوار الذي صاغه سعد الدين وهبة جاء بذكاءٍ لافتٍ وسخريةٍ تنضح بالمرارة والوعي. كل جملة تحمل خلفها فلسفة كاملة، كقوله: «النفاق هو العملة اللي ماشية دلوقتي يا محجوب!» جملة واحدة تختصر علم الاجتماع السياسي في عصرٍ كامل. والعبقرية هنا أن الكاتب لم يستخدم الخطابة أو الوعظ، بل جعل النكتة وسيلة كشف، والضحك أداة مقاومة، فغدت الكلمات طلقاتٍ من السخرية تصيب القلب بالوعي لا باليأس.

وإذا كانت اللغة قد جسّدت الضمير الإنساني في حواره الداخلي، فإن الموسيقى التصويرية التي وضعها علي إسماعيل أدّت الدور نفسه بالأنغام. كل نغمة تُعبّر عن التناقض بين ظاهر المشهد وباطنه، بين ابتسامة فؤاد المهندس وحيرته الداخلية. تسمع الموسيقى فتدرك أنها تضحك بأسى، كأنها تقول.. “ها هو الإنسان يبيع مبادئه على أنغامٍ مرحة!!!” وبهذا الوعي الموسيقي تحولت الألحان إلى تعليق ساخر على الواقع، تُشارك في النقد بدل أن تكتفي بالتزيين.

يوسف السباعي لم يكتب رواية رمزية غامضة، بل قدّم واقعيةً ساخرة جعلت من الخيال وسيلة لتعرية الواقع. في أرض النفاق، لا نجد الشرير الواضح ولا البطل المثالي، بل الإنسان العادي الذي يتحول بفعل الظروف إلى نموذج مصغّر للمجتمع. القصة والفيلم معًا يسخران من كل شيء…. من السلطة، من المجتمع، من المواطن، بل ومن القيم حين تتحول إلى شعارات. وهكذا يصبح الفيلم كاشفًا لا مُتهمًا، وساخرًا لا محبطًا، ومُلهمًا لا واعظًا، يوقظ فينا حسّ النقد بدلًا من أن يُملي علينا دروس الأخلاق.

 

 

ومن اللافت للنظر أن فيلم ” أرض النفاق” عُرض عام 1968، حين كان عدد سكان مصر لا يتجاوز 33 مليون نسمة فقط، أي أقل كثيرًا من عدد السكان اليوم والذى تجاوز ال 108 مليونً نسمة . ذلك الفارق الهائل في الأعداد لا يعكس مجرد نموٍّ ديموجرافي، بل تحوّلًا اجتماعيًا واقتصاديًا عميقًا جعل التحديات أكثر تعقيدًا، وأعاد إنتاج بعض مظاهر “أرض النفاق” في ثوبٍ جديد.

فإذا كان النفاق في الستينيات يُمارس كفنٍّ اجتماعي ناعم، فقد أصبح اليوم آلية بقاءٍ وسط زحام المصالح وتضخم الحاجات. إن الأرقام هنا لا تزيّن المقال، بل تُذكّرنا بأن تضاعف عدد السكان لا يعني بالضرورة تضاعف القيم، وأن ما كان رمزيًا بالأمس، صار واقعًا رقميًا اليوم.

يتركنا الفيلم أمام سؤالٍ مؤلم: هل يمكن أن نعيش دون أقراص النفاق؟ الإجابة !! كما يوحي بها النص ليست سهلة، لأن من يرفض الأقراص يُنظر إليه كمريضٍ بالصدق. إنها مأساة مجتمعٍ يُكافئ المجاملة ويعاقب الصراحة، ويمتدح الذكاء الاجتماعي وهو في الحقيقة يقصد فن التلون.

هكذا تتحول السخرية في أرض النفاق إلى أداة مقاومة فكرية، لا تسعى لتغيير العالم بقدر ما تسعى لإيقاظ الضمير.

ويظل أرض النفاق رغم مرور العقود عملًا معاصرًا بشكلٍ مؤلم. فكلما حاولنا أن نبرّر الكذب بالظروف، أو التناقض بالمصالح، أو المجاملة بالذوق، نتذكّر أن يوسف السباعي قد سبقنا جميعًا إلى الحقيقة المرة: “إن أخطر أنواع النفاق… هو الذي نمارسه مع أنفسنا”، وهكذا تبقى أرض النفاق عملًا خالدًا، لأنه لا ينتقد مرحلة بعينها، بل طبيعة بشرية أزلية ما زالت تبحث عن الشجاعة لتتخلّص من أقراصها اليومية… قبل أن تنفد الجرعة الأخيرة من الضمير.